أي دور جديد للدولة؟
بقلم احماد بويسان من باريس
احماد بويسان
منذ أزيد من ربع قرن، أو
على الارجح منذ اواخر الثمانينات من القرن الماضي، دراسات وابحاث عديدة كرست لدور
الدولة، جدواها، ومهامها تحت تأثير التطورات العالمية السريعة على المستوى
الاقتصادي، الاجتماعي، والسياسي، وعلى مستوى التطور التكنولوجي. تلك التطورات فرضت
اليوم إعادة النظر في دور الدولة واستراتيجيتها. وسنحاول التطرق في هذه المقالة
لاهم العوامل التي عصفت بالدور التقليدي للدولة ولاهم أدوارها الجديدة.
العوامل الاساسية التي كانت وراء إعادة
النظر في دور الدولة:
* إفلاس النموذج الاشتراكي البيروقراطي
الستاليني، النموذج الذي ضحى بالحرية والانسان؛
* الفشل الذريع الذي آلت إليه
الليبرالية المتوحشة التي أدت الى اختلالات وانعكاسات سلبية على المستوى الاجتماعي
والبيئي، وخلفت ازمات مالية ونقدية حادة، مما دفع العديد من الباحثين الى اعادة
النظر في التصور التقليدي للدولة. ذلك ان النيوليبرالية، سليلة الليبرالية، لم
تكرس التفاوتات الطبقية فحسب، بل انتجت طبقة سياسية حاكمة - تستخف بالسيادة
الشعبية- مافيوزية في البلدان المتخلفة وارستوقراطية مرتبطة باللوبيات البنكية والمالية
في البلدان "الديمقراطية"
* التطور المذهل للحقل الديمقراطي والتركيز
على أهمية الديمقراطية التشاركية التي تركز على ممارسة السلطة من الاسفل إلى
الاعلى، بعيدا عن الديمقراطية التمثيلية الارستقراطية، حيث السلطة تمارس من الاعلى
إلى الاسفل وتنتج نفس النخب، مع ما يرافق ذلك من شطط وفساد في ممارسة السلطة. كما
ان ظهور الحركة الجمعوية المدنية الواسعة المنخرطة في مجالات جديدة (العمل
الانساني، حماية البيئة والدفاع عن حقوق الانسان والاقليات) ساهم في انهيار صرح
الدولة البيروقراطية. وقد برهنت هذه الحركة على اهمية وجدوى تحرير الطاقات البشرية
للمساهمة في معالجة مشاكل الافراد والمجتمع، مما يحتم اسناد سلطات واسعة للجماعات
المحلية والمجالس القاعدية المحلية تفاديا للتراتبية العقيمة التي تميز جهاز
الدولة المركزية. وبكلمة اصبحت الحريات الفردية تسمو فوق الحقوق التقليدية للدولة.
* الشمولية الاقتصادية والمنحى الجديد لإرساء
تحالفات وتكتلات سياسية واقتصادية لمواجهة مخاطر العولمة الليبرالية، مما قلص
مجالات تدخل الدول لصالح المؤسسات الجهوية والدولية، وبالتالي اصبحت الاختيارات
المالية والاقتصادية الدولية ملزمة للدول. فلا يمكن لدولة في ظل العولمة
الليبرالية أن تخطط لمستقبلها في منأى عن المحيط الدولي، كما ان بروز الاقتصاد
الاجتماعي التضامني فند "أزلية" اقتصاد الربح الفردي الاناني.
* اخيرا شكل التطور التكنولوجي وتقنيات
التواصل الاجتماعي تحديا جديدا على الدولة. فالعالم اصبح قرية صغيرة بفضل تطور
العلم.
كل تلك العوامل تؤدي في نظرنا إلى إعادة
النظر في الادوار الكلاسيكية للدولة في طرق عملها وفي استراتيجيتها من اجل فعالية
أكثر لتدخلاتها. فالدولة لم تعد قادرة على لعب أدوارها السابقة (التدخل في كل شيء
وتوفير جميع المتطلبات) ومع الانخراط الواعي للمواطنين في الحياة العامة أصبحت
الدولة تتخلى عن بعض مهامها والتزاماتها. لكن هل الدولة انتهت؟ الجواب بالطبع
بالسلب ومع ذلك تساؤلات عديدة، في اعتقادنا، تفرض نفسها:
* كيف ستكون الاعباء الجديدة للدولة؟
* ما هي الادوار التي يمكن اسنادها
للمؤسسات "المافوق وطنية" وللسلطات الجهوية والمحلية؟
* أية شراكة وعلى اي نمط، يمكن للدولة تعبئة
الطاقات لضمان مساهمة واسعة للمواطنين والجماعات؟
* كيف يمكن لجهاز الدولة أن ينظم نفسه
وأن يرتب أجزائه وهياكله ليتكيف مع دوره الجديد؟
* أخيرا كيف نتصور دور الدولة الجديد؟
إن تساؤلات عديدة تطرح اليوم حول دور
الدولة كعامل مركزي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فلا أحد يجادل في كون
الدولة جهاز ضامن للاستقرار والامن وعامل رئيسي في الرقي و التطور. لكن ماهي تلك
الادوار الجديدة للدولة في ظل المتغيرات الجديدة وطنيا, جهويا ودولية ؟
في اعتقادنا على عاتق الدولة:
* مهمة محورية وهي مهمة التوجيه
والتخطيط سواء على المدى القصير أو المتوسط فيما يخص الخطوط الكبرى والعريضة
للتنمية المجتمعية، قطاعيا، محليا، جهويا ووطنيا. مما يفرض على الدولة وضع
البرنامج المستقبلي العام.
* توفير المعطيات و المعلومات للأفراد و المقاولات لمواكبة التطورات التكنولوجية والمجتمعية ليتخذ الجميع الاحتياطات اللازمة فيما يخص التوقعات و الاهداف.
* توفير المعطيات و المعلومات للأفراد و المقاولات لمواكبة التطورات التكنولوجية والمجتمعية ليتخذ الجميع الاحتياطات اللازمة فيما يخص التوقعات و الاهداف.
* مهمة إرساء دعائم القانون وتطبيقه
تطبيقا سليما يضمن مساواة الجميع امامه، دون تحيز لاحد الاطراف . فالدولة جهاز
"تحكيمي" بين كل الفاعلين الاقتصاديين سواء منهم القطاع الخاص أو المؤسسات
العمومية أو الشبه العمومية. فكون الدولة فوق الجميع عامل اساسي لضمان النزاهة،
الشفافية، والمنافسة الحرة الشريفة.
* مهمة التحفيز وتوفير المناخ العام لإبراز
الطاقات البشرية والخيرات المادية لدعم النمو والاستثمار. وعلى الدولة ان توفر
الظروف الملائمة للخلق والابتكار لمحاربة الاتكال واليأس.
* ضمان التوازنات الاقتصادية الكبرى من
اجل تطور عقلاني ومتوازن لدرء الانحرافات والانزلاقات وانعكاساتها على المواطن و
الاقتصاد.
* مهمة ضمان التوازنات الاجتماعية
لتصحيح أوضاع التهميش واللامساواة لان القلاقل والفوضى نتيجة لأوضاع اجتماعية
متردية والتي تغذي كل اشكال التطرف والمغامرة والانحراف.
* الدولة كذلك يلزمها توفير التجهيزات
العمومية الاساسية خاصة لفائدة الفئات المحرومة من تعليم، صحة وسكن.
* وتبقى أخيرا مهمة تقليدية على الدولة
أن تضطلع بها على أحسن وجه وهي ضمان الامن والاستقرار وتطبيق القانون. فبدون امن
لا يمكن للدولة أن تضمن احترامها وهيبتها من قبل المواطنين.
ومن أجل الاضطلاع بتلك الاعباء الجديدة على الدولة ان تتوفر على استراتيجية واضحة المعالم في التنظيم والعمل. فالاستراتيجية الواضحة والمدروسة تكسب الدولة مصداقية في أعين المجتمع والمواطن الذي تروم اشراكه في كل تدخلاتها لان العشوائية و"اللخبطة" وضبابية الاهداف تفقد حماس المواطن مما يترك المجال لكافة التأويلات والشائعات.
ومن أجل الاضطلاع بتلك الاعباء الجديدة على الدولة ان تتوفر على استراتيجية واضحة المعالم في التنظيم والعمل. فالاستراتيجية الواضحة والمدروسة تكسب الدولة مصداقية في أعين المجتمع والمواطن الذي تروم اشراكه في كل تدخلاتها لان العشوائية و"اللخبطة" وضبابية الاهداف تفقد حماس المواطن مما يترك المجال لكافة التأويلات والشائعات.
من أجل استراتيجية جديدة للدولة.
هذه الاستراتيجية تركز في نظرنا على
أربعة دعائم اساسية وبدونها يستحيل الحديث عن دولة عصرية حديثة وقوية.
1- ارساء اللبنات الاساسية لمجتمع
ديمقراطي عصري يرتكز على فصل حقيقي للسلط و احترام "مبجل" لسلطة القضاء
وهيبته وحماية حرية الرأي والاعتقاد.
فالدولة لا تكون قوية إلا بالقانون
وبتشريعات حديثة تضمن لها التطبيق الصارم لمصلحة الافراد والجماعات مما يستوجب في
نظرنا تنظيم انتخابات عصرية نزيهة وحرة لاختيار ممثلي الشعب بعيدا عن الضغوطات
السياسية والمالية لفرز خريطة سياسية حقيقية تعكس رأي المواطن وتوجهاته. فالخريطة
السياسية الحقيقية تبرز معارضة حقيقية لا تحتاج إلى نقاهة و إلى أغلبية حقيقية
قادرة بالفعل على تسلم زمام السلطة والحكم، لا تخشى لا لوبيات، ولا جيوب المناهضة،
ولا "عفاريت" وهمية. لبلوغ هذا الهدف لابد من إجماع كل الفاعلين
السياسيين حول مبدأ اساسي وهو احترام المسلسل الانتخابي بأكمله.
2- تطوير مؤهلات الادارة بتدبير نزيه، وترتيب
الاولويات والتوجهات الاساسية، سواء في الميدان الاقتصادي والاجتماعي والسهر على
سرعة وفعالية تطبيقها. إن الدولة في امس الحاجة إلى إصلاحات جذرية وضرورية تمس
الادارة والقضاء، مرورا بإصلاح هياكل وأجهزة الدولة نفسها عموديا وأفقيا. وهذا
يفرض التوفر على جهاز تنفيذي منسجم قادر على ابتكار أساليب وميكانيزمات تضمن
التنسيق المطلوب والتنفيذ المحكم والتحكيم النزيه. جهاز يتوفر على بنيات وزارية
فعالة وسلطات إقليمية ومحلية وممثلين جهويين وإقليميين قادرين على الاضطلاع وفهم
الادوار الجديدة للدولة. إن الادارة المحلية يلزمها أن تعي دورها الاساسي في الدفع
بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى الامام و تحارب بدون هوادة أساليب
التسويف والمحسوبية والزبونية. إدارة محلية تسهر على تطبيق القانون تطبيقا سليما
للمساهمة في إنعاش الشغل والاستثمار و التطور.
إن حسن التدبير يقتضي ايضا جهازا
قضائيا مستقلا عن السلطة السياسية والمالية، يضمن العدل والانصاف بتشريعات وقوانين
منسجمة مع التطور المجتمعي بقضاة أكفاء نزهاء وبوسائل فعالة وسريعة في تنفيذ
الاحكام. التدبير الجيد يقتضي كذلك إشاعة الشفافية والنزاهة وأخلاق العمل والكفاءة
والمساواة ومحاربة الامتيازات.
3- سن سياسة اقتصادية واجتماعية قادرة
على ضمان نمو دائم وقوي ب:
- التحكم في التوازنات "الماكرو
اقتصادية" القادرة لوحدها على تقليص المديونية والتحكم في التضخم وجلب
الاستثمارات الاجنبية وإنعاش الشغل، ومحاربة التهرب الضريبي وتبييض الاموال. غير
أنه يتعين عدم اعتبار التوازنات "الماكرو اقتصادية" غاية في حذ ذاتها، بل
العمل على الاستراتيجية الاقتصادية العامة للدولة.
- الحفاظ على نسيج اجتماعي سليم بفضل
سياسة التوزيع العادل للخيرات وبواسطة قانون جبائي عادل وسياسة اجرية شفافة.
- حماية الفئات المهمشة والمستضعفة.
- حماية البيئة والمحافظة على التوازن
المجالي.
4- وضع الاليات الاساسية لمشاركة
المواطنين ولبلوغ هذا الهدف يلزم:
- تطوير الديمقراطية المحلية بفضل
سياسة لامركزية حكيمة مبنية على مجالس جهوية ومحلية منتخبة انتخابا حرا، متوفرة
على السلطات والموارد اللازمة لاتخاد القرارات والتوجهات السديدة في المجالات
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وترتيب اولويات التطور المحلي والجهوي.
- إسناد سلطات واسعة للممثلين المحليين
والجهويين.
- تعبئة واسعة للمجتمع المدني المنظم
عبر جمعيات غير حكومية. ففي كل المجتمعات الديمقراطية المواطن لا يكتفي فقط بان
يكون مرشحا أو ناخبا بل يسعى لان يكون مساهما مباشرا في معالجة قضايا السكان ومتطلبات
الحياة المحلية. وهاته المشاركة ستمكن من استقطاب غير المنتمين سياسيا للاهتمام
بالشأن العام. والدولة يلزمها أن توفر الاطار التشريعي القادر على تطوير النسيج
الجمعوي.
- أخيرا يأتي دور القطاع الخاص الذي
يشكل في نظرنا عاملا أساسيا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لكن هذا القطاع
يحتاج إلى توجهات اقتصادية واجتماعية واضحة وإلى منافسة شريفة وإدارة "مواطنة".
إذا كانت الدولة تحتاج إلى تجديد فإن التجديد ايضا ينسحب على الاليات التنفيذية و التشريعية القادرة على مواكبة التطور ومتطلبات المواطنين والجماعات. وقوة الدولة تكمن كذلك في قوة الاحزاب السياسية، أحزاب عصرية منفتحة على الاجيال الجديدة ومطالب الحركات الاحتجاجية المدنية المناضلة، احزاب حديثة تقطع مع ثقافة الاعيان والنبلاء والولاء الاعمى للقيادة لتساهم بالفعل في تأطير المواطنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.